همس الأنامل

 

الفصل الأول: 


أرتجف بردا، الهواء بارد يلسع بشرتي الحساسة، ورائحة الرطوبة تطبق على أنفاسي. تكورت فوق السرير الخشبي واحتضنت نفسي لعلي ألتمس بعضا من الدفئ في هذه البقعة المنعزلة. قبل شهور تعد على الأصابع كنت أميرة منعمة، مكرمة في بيتها، كنت قرة عين أبي وأخي، فبعد موت والدتي وأنا طفلة لم يكن لي سواهما.

الآن، لم يعد لي أب حازم يريحني في حضنه، ولا أخ لعوب يهرب لي الحلويات في منتصف الليل. 


معهما ذهبت الأصوات وذهبت الأضواء، فلا صوت بعدهما قد يسري عني، ولا ضوء غير إشراقة وجههما قد يبهرني، هكذا، ببساطة كخرقة بالية لم تعد تسوى قرشا رميت في إصلاحية على ضاحية المدينة، حيث لا أطباء يعالجون ولا ممرضات تصون، فقط الجدران الباردة تبكي، والنوافذ تزوم.


ظلام في ظلام، صمت مطبق لا يعكر صفوه شيء، عشت لمدة تسعة أشهر، ولي منها خمسة في هذا الكهف المرهب.

أتحسس الجدران لعلي ألتمس طريقي فتنزلق يداي في الماء، وأرهف شمي لعلي ألتقط رائحة تطبطب على قلبي فلا تقابلني سوى العفونة ورائحة الطحالب.


على الأقل، مرة في اليوم، لمدة ساعة، كان يسمح لنا الخروج من غرفنا، لنجلس في الحديقة الصلبة قرب بعضنا كالنعاج، نتنفس هواء نظيفا، ويقدم لنا بسكويت مالح هو أشهى ما يقدم في هذا المكان.


مجانين وعميان، حمقى وأغبياء، معاقون وأطفال، كنا حفنة من الناس تخلت عنها الدنيا. 

 لم يكن نصلح حتى لنعمل كخدم، ولا كأطفال حلوة ليتم تبنينا، أجسادا تنتظر الموت.


لم أكن أعتقد يوما أنني قد أشتم رائحة عطر في هذا المكان بعيدا عن رائحة عرق الممرضات، ورائحة الحليب التي تفوح من الأطفال، ورائحة شجرة الصنوبر التي تتساقط ثمارها فوق رأسي دوما، لكنه لدهشتي حصل! 


رائحة قوية تجبرك على العطاس، مزيج بين العود وخشب الصندل. كانت الرياح تنشرها في كل مكان فلم أستطع قط أن أعرف صاحبها. 


لمستني أيد غليظة ودفعتني للمشي، لم يكن وقت الاستراحة انتهى بعد، فعلمت أن ضيفا مهما قد جاء. 

عدت لغرفتي واستقبلتني رائحة العفونة، لكن بعض من تلك الرائحة كان يقاوم فيدخل إلي.


يوم تلو الآخر ظلت الرائحة تحوم في المكان من حولي، خفيفة في غرفتي، قوية بالداخل، مبعثرة في الخارج. لم أبصر لأعرف صاحبها، ولم أسمع لأعرف إن كان هنا أم غادر وترك رائحته تجوب.


ثم كان أن اقتحمت تلك الرائحة أنفي بقوة شديدة ذات نهار ندي. وأحسست بظل شخص فوقي، كان بلا شك مقرفصا لكنه مع ذلك يفوقني ضخامة. رفعت عيناي نحوه وحدقت في السواد دون أن أرى شيئا.

مرت برهة، ثم أطبق على يداي، فحركهما ملوحا في حركات عشوائية، مرة وأخرى. ثم سحب يداه وغادر.


 مررت يدي على ذراعي، لعله أراد أن يخاطبني بلغة من لا يسمعون، لكني لا أفقه أي لغة الآن، لا لغة الصمت، ولا لغة الكلام. خرساء، صماء، عمياء، 

بماذا قد يعبر شخص مثلي!



تعليقات